أزمة عميقة
كانت وسائل الإعلام حتّى وقتٍ قريب من العقدِ الماضي أهم مجالات تلقّي المعلومات، ومن ثمّ تمت إعادة بثّها بطريقةٍ خاصة لتخدمَ أجندة القنوات. استُخدمَت وسائلُ الإعلام بكافّة أشكالها في النضالات السياسية، ومنها، ولربّما آخرها الأقلّ تكلفًة: الفيسبوك، التويتر واليوتيوب، بحيث ساهموا جميعاً في نشر أخبار الاحتجاجات في الدولِ العربيّةِ قاطبًة منذ ثلاثة أعوام مضت.
السؤال هنا: ما هو المُشترك بين الثورات الإيرانيّة التي أتت بالخميني؟ والفلبينيّة التي أتت ببنما؟ والحراك الاجتماعي الصيني الدّاعم للديمقراطية؟
الجواب: وسائل التكنولوجيا واستخداماتها غير المتوقّعة والخلّاقة لمواجهة الأحداث، كمثلِ استخدام الرّسائل النصيّة، الفاكس، والهواتف، الأمر الذي كانَ له الدّور الكبير آنذاك. ومع التطوّر التكنولوجي أصبحت الوسائل أكثر تأثيراً وإنتشاراً لأنّها مرئيّة، مقروءة، سهلة ومسموعة.
حدث تحوّل هائل فى العالم الرقمي مع بُروز مواقع التواصل الاجتماعي بكثرة، كالفيس بوك، والإنستجرام، اليوتيوب، كيكي، وعشرات الأدوات الأخرى، و ظُهور الإعلام الاجتماعي كمجال واسع للنشر والتلقّي المتبادل، والمناقشة وإعادة الإخراج والتنقيح والصياغة لمظهرٍ جديد ومعلومات مظللّة Highlighted)).
لم تقتصر هذه الوسائل على هذا النحو فحسب؛ بل أصبحت، وبشكلٍ ملحوظ المقرَّ الرسميّ لإيصال الرّسائل السياسيّة والاجتماعية من قبل كبار السياسيين ورجال الأعمال والوزراء والمسؤولين.
الثورة التكنولوجية مكّنت المواطنين وأفراد العامة من امتلاك قوّة المعلومات، لكونها مُتاحة، علماً أنّها كانت في السابق تترتّب على النُخب السياسية والطبقات الأرستقراطية، وأصحاب رؤوس الأموال. هذه القوة لها المقدرة على تجميع المعلومات، تحليلها، إعادة إخراجها وتوزيعها بشكلٍ ضخم لما تحتويهِ من معلوماتٍ حساسة أحياناً لا تحبّذ الحكومات نشرها على أبنائها من العامة، ولم تهدم فقط الفارق التكنولوجي\\الحسّي والقدرة على الاستحواذ المعلوماتيّ فقط، بل استطاعت أيضاً التغلّب على المسافات والوقت وكسر الحواجز والطبقات الاجتماعية والاقتصادية التراكميّة، وسهّلت القيام بحملات مضادة للحكومات، أو ضدّ مشاريع تضر بالعامة من خلال الوصول إلى أكبر عدد من الأفراد المهتمّين. لذلك، فإنّ وسائل التواصل الاجتماعي ليست مجرّد أدوات عادية بل هي سلاح ذو حدّين يمكنه تسهيل ما هو مُستحيل، وجعل ما هُوَ سهل مستحيلاً.
اضطرت الحكومات المحليّة وخصوصًا في الولايات المتحدة الأمريكيّة وأوروبا البحث عن طرق للاستفادة من هذا التطور، وكان أهمّها "كيّفية استخدام وسائل الإعلام الاجتماعي فى عملية المشاركة الُمجتمعيّة والعملية الديمقراطية" وتجديد السياسات العامة. وأخرى قامت بها كبرى الشركات لتحديد احتياجات السوق المحلية والعالمية، فأصبحت وسائل الإعلام الاجتماعي أحد أعمدة بناء الإستراتيجيات في هذه الكيانات بشقيها العام والربحي الخاصّ.
شهد نهاية العام الماضي قضيّة أثارت ضجة إعلامية على المستوى العالمي، مفادها أن مسؤولة العلاقات العامة في شركة أمريكية عملاقة أُجبِرَت على الاستقالة من منصبها (ورّبما تم طردها فيما بعد)، مديرة الأعمال البيضاء قامت بكتابة تغريدة إلكترونية قبل إقلاعها إلى جنوب افريقيا فى رحلة استغرقت اثنتي عشرة ساعةً، ولم يكن باستطاعتها متابعة الرّدود. كتبت (جستن ساكو) تغريدتها المشهورة: ”أنا ذاهبة إلى أفريقيا. أتمنّى ألّا أصاب بالإيدز. أمزح! أنا بيضاء”. قرأها أحد مُتابعيها فقام بإعادة تغريدها وإنتشرت حتى وصلت إلى مجلات وجرائد عالمية فى حين أن ساكو، نفسها، مسؤولة العلاقات العامة والاتصال كانت لا تزال في الطّائرة ولا تعلم بالضجة التي أحدثتها، والتي بالمقابل، كلّفتها خسارة وظيفتها والمنصب. حينها، قامت الشركة بفصلها بعدما اعتذرت. اعتبر خبراء الإعلام والإعلام الاجتماعي أنّ حادثة ساكو تلك ستكون أحد دروس الأعوام القادمة فى مجال الإعلام والعلاقات العامة. وفي حادثةٍ أُخرى، استقال الناطق الرسمي لأحد الأحزاب السياسيّة الأمريكية المحلية بسبب تغريدة "شاذّة" تمنّى فيها الموت لأشخاص بسبب رأيهم المخالف في السياسات المحلية. ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل وصل إلى سلك الشرطة حيث أُجبرت ضابطة شرطة بريطانية على الاستقالة بسبب تغريدة عن (مارغريت تاتشر) بعد وفاتها منتقدة سياستها السابقة. أيضاً أجبر مدير تكنولوجيا المعلومات في بزنس انسايدر على الاستقالة، بسبب تبادل تغريدات مع زملائه في المكان بشكل غريب وينافي الأخلاقيات العامة للشركة بحسب ما أصدرته من بياناتٍ لاحقاً.
لم يقتصر الأمر على البلاد الغربّية وإنما امتدّ إلى البلاد العربية أيضًا، ففي فلسطين، أقدم دكتور جامعيّ على تقديم شكوى ضدّ طالبته بسبب تعليق على الفيسبوك انتقدت فيه سياسة إجبار الطلبة على حضور بعض النشاطات اللامنهجيّة. وفي حادثةٍ أخرى، تمّ إعتقال بعض الناشطين الشباب بسبب تعليقاتهم وإنتقاداتهم للسلطة الفلسطينيّة فى الضّفة والقِطاع؛ طُلِبَ منهم فتح حساباتهم على الفيس بوك للإّطلاع على محتواها.
في المغرب، تم اعتقال مُراهقَيْن بعد أن وضعا صورتهما على الفيس بوك وهمّ يُقبّلانِ بعضهما. وكان قد تمّ التقاط الصورة لهما بواسطة صديق خارج مدرستهما في مدينة نضور، ومن ثمّ نشرها على الفيسبوك. ووجهت لهما تهمة الخروج عن الآداب العامة بعد أن نشرت صحيفّة محلية الصورة عينها.
كل ذلك أثار ضجة بين العامة والنخبة والأكاديميين والمثقفين، حول ماهية وسائل التواصل الاجتماعي وهل هي فضاء عام أم خاص؟ تتواصل النقاشات حول كيفية الفصل بين ما هو خاص وما هو عام (قانونياً) من آراء ومنشورات على حوائط هذه الأدوات (جُغرافياً) وما يعتبر انتهاكاً للأخلاقيّات العامة سواء كانت في العمل أو في البيت (سلوكيات فرديّة وعلم اجتماعية) وهل يحق للدولة مراقبة أو الولوج إلى حسابات المستخدمين للحصول على معلومات بدون الحصول على الإذن أوّلًا؟ وبالّرغم من أنَّ النقاش ما زال في إرهاصاته في الوطن العربي، إلا أنه حتماً أخذ وضعاً جدياً فى الميدان البحثي والأكاديمي الغربي.
الفضاء العام
يعتبر الفيلسوف الألماني (يورجن هابرماس) صاحب نظرية الفضاء العام، (Public Sphere) وهو أوّل من ركّز على ضروة تجاوز الدولة من خلال تشكيل فضاء اجتماعي للفضاء العمومي، الّذي يشكّل النواة الأساسية لنقد الدولة وكيفية أدائها الوظيفي السياسي. طوّر هابرماس مُصطلح الفضاء العام فى كتابه الشهير (التحولات البُنيويّة في المجال العام) ويحاجج هابرماس في كتابه أن بعض قضايا المجتمع تتطلب حراكاً سياسياً أو اجتماعياً يتشارك فيه ويتداخل العام والخاص، بما ينتج عنه تكوين رأي عام تجاه تللك القضايا.
ويعتبر الفضاء العام مكاناً عاماً للحوار والمناقشة حول قضايا عامة لها أصداء مختلفة، سياسياً وإجتماعياً وأي قرارات سياسية أو مجتمعية قد تؤثر على الفرد لحظياً أو مُستقبلياً.
يُعرِّف هابرماس الفضاء العام بالمحيط الذي يستخدمه المجتمع لمناقشة وتشكيل حراك عام في كل ما يهمه خارج نطاق أعين السلطات وأدوات مراقبتها، ولكن، تعريفه للمحيط العام كان مقتصراً على طبقة معينة من البُرجوازيين الأوربيين في القرنين الثامن والتاسع عشر، وبالتالي حُدّدت الفئة التى درسها وبنى نظريته على أساسها فكان تعريفهُ ضيقاً مما فتح المجال (حتّى يومنا هذا) للبناء وتطوير مفهوم المحيط العام. فقامت (نانسي فريزر) في أحد مقالاتها (Rethinking the Public Sphere: A Contribution to the Critique of Actually Existing Democracy) بانتقاد (هابرماس) والقول بأن هناك أكثر من فضاء عام واحد. حيث يتشكل الفضاء العام من عدة طبقات متماثلة من الفضاءات العامة، تُبنى على أساس العرق، الجنس، اللون، الوضع السياسي، الوضع الاجتماعي، والمهنة، وهي بشكلها الكامل محددات للفضاء العام الواحد.
والفضاء العام، بتعريفٍ آخر، هو مكان الحوار والنقاش داخل المجتمع حول القضايا. وهنالك مفهوم الفضاء العام الآخر (Public Space) والذي يعني: تلك الأمكنة بشكلها الملموس كالحدائق والمدارس والشوارع، والأسواق والملاعب والأماكن التاريخية والمكاتب العامة والساحات.
بالنظر إلى الفضاء العام الملموس، فإننا نجد أنه عبارة عن ترميز وانعكاس للمحيط العام الذي يتحدث عنه هابرماس. وهذا يقود إلى عالم الفضاء والأماكن الافتراضية كالإنترنت والإعلام الاجتماعي.
تلعب وسائل الإعلام دوراً مهماً فى إثارة الجدل والنقاش حول القضايا المجتمعية والسياسية. وفي السابق كانت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة تتبع لرقابة الدولة بشكل كبير. ورغم التطور الكبير فى وسائل الإعلام إلا أن هذا النوع ما زال مُؤطراً سياسياً، ويبث مواد ومعلومات تخدم طرفاً معيناً على حساب أطراف أخرى لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية من خلال تضليل الرأي العام.
مع ظهور الإعلام الاجتماعي وزيادة مساحة الفضاء العام والتغلب على عنصر مراقبة الدولة على وسائل الإعلام التقليدية، أصبح الإعلام يلعب دوراً إيجابياً فى دعم وتأطير الرأي العام وإثراء الجدل السياسي والاجتماعي فى المجتمع. ويؤدي استخدام وسائل الإعلام الاجتماعي إلى الحث على مبادئ الحكم الصالح والرشيد فى المؤسسات العامة واستبعاد تفكيرها الفئوي والمصلحي (المحسوبية والفوضى والفساد) والابتعاد عن الطبقية.
الفضاء الخاص
يعنى بالفضاء الخاص: المكان الذي يمتلكه فرد أو مجموعة من الأفراد غير المؤسسات الرسمية والحكومية. وهذا الفضاء يخضع لملكية الأفراد حسب القانون ولا يحق لأي شخص أو مؤسسة أو حتى الحكومة ذاتها بالتصرف بهذا الفضاء بدون غطاء قانوني. وعادة هي للاستخدام الفردي أو مجموعة من الأفراد ولا يحق للعامة التمتع بها أو استخدامها.
بإسقاط مفهوم الملكية الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، فإننا نجد أن كل شخص يمتلك حساباً محمياً بكلمة مرور واسم دخول يمكنه هو وحده، ومخول حسب لوائح الموقع القانون العام بدخول حسابه والوصول إلى المعلومات الخاصة به، بما يتضمنه من رسائل خاصة ومشاركات غير عامة. وحسب لوائح بعض الشركات، فإن ما تشاركه في العام يصبح ملكية لتلك الشركة (الصور والفيديوهات). ولكن هل المشاركات على الصفحة العامة للفيسبوك الخاص تعتبر فضاء عام؟
الفضاء الثالث
أحد أهم الزوايا التى يجب البحث فيها هو الفضاء الثالث، حيث يتماثل ويتداخل الفضاء العام الملموس (الأمكنة) مع الفضاء الافتراضي، حيث عالم الإنترنت والإعلام الاجتماعي. هذا يؤسس لحياة عامة غير رسمية خارج جدران البيت والعمل والأماكن العامة. في هذا الفضاء تزيد القيمة المعنوية للمشاركة السياسية في المجتمعات التي تكون حرية التعبير والتجمع محدودة أو محظورة فيها بسبب النظام السياسي. وتحدث (اولدنبرج) عن ستاربكس كبديل للفضاء العام مطلقاً عليه "ثقافة الستاربكس" ولكن (اولدنبرج) ركز على الجانب التجاري والربحي مقصياً دراسة الفضاءات المختلفة قائلاً إن ذلك سيؤدي إلى إضافة نوعيه في المجتمعات الديمقراطية من خلال توفير مكان كستاربكس. وهذا ما يطلق عليه الفضاء شبه العام (pseudo-public space).
الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي كفضاء ثالث
مواقع التواصل الاجتماعي: هي عبارة عن محتويات من البيانات التي يقوم المستخدمون بنشرها وكتابتها ومشاركتها، سواء أكانت اجتماعية أو سياسية. ولكن الدولة تواجه تحديات حقيقية عندما يكون المحتوى المنشور يمس بممارساتها وكيفية إدارة شؤون الدولة، لذلك تضع الدولة عيونها على هذه المواقع وعلى المواد المنشورة. في عام ٢٠٠٨ قررت شركة يوتيوب تشديد الرقابة على المحتوى الرقمي لها مع منع أي مستخدم من نشر أي محتوى بدون التسجيل المسبق. وفي العام ٢٠١٢ شددت شركة جوجل وفيس بوك من إجراءاتهما الأمنية بحيث أجبرت المستخدمين على إضافة أرقام هواتفهم المحمولة تحت شروط الحماية. لم تقف الفيس بوك عند هذا الحد بل إنها تجبر المستخدمين أحياناً على إرسال صورة بطاقة الهوية، أو إثبات شخصية للشركة بحجج أمنية تمس المستخدمين. وقامت قبلها شركة "آبل"، بتشديد إجراءات تحميل التطبيقات بحيث يكون للمستخدم حساب مربوط ببطاقة ائتمانية كذلك. وفي هذا المضمار يقول برامان وروبرت إن الشركات التي تقدم خدمات في العالم الافتراضي تشدد إجراءاتها الأمنية، من خلال اسم مستخدم أو بطاقة هوية أو ائتمان هي عبارة عن "شبه عامة" أو "شبة خاصة" أو ما يمكن تسميته "هايبرد".
ثمة عالم افتراضي آخر تُمارس فيه كافة النشاطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بما يمثله من وجود للشركات وللأفراد. وبتتبع نظرية "company town"، الشركة كمدينة لـ (زاك). يلاحظ أنه ومع اختلاف المقدرة على بناء التصورات القانونية واللوائح التى تحكم بموجبها هذه المدينة الرقمية سكانها، يتمتع الفضاء العام الملموس بسهولة التحكم فيه ووضع قوانين وضوابط من قبل الدولة. لكن علينا الاعتراف بأن غياب مراقبة الدولة على الفضاء الثالث لا يعني أنه فضاء غير محدد، فله ضوابط وتستطيع الدولة إيقافه أو الوقوف في هذا الفضاء للحد من الضغوط عليها، تماماً كما حدث في مصر وتونس ودول عربية أخرى في العام ٢٠١١. ومع أن خدمة الإنترنت تعود إلى شركات خاصة مقابل أن الفرد يدفع مبالغ مالية مقابل تلك الخدمات، إلا أن الدولة استطاعت أن توقف تلك الخدمات.
لذلك فإن التحدي الأكبر فى هذا العالم الافتراضي هو مقدرة بعض الشركات الخاصة التي لها خصائص الفضاء الخاص، والتي تقدم خدمات مقابل أموال ربحية، أن تتحكم فى الفضاء العام أو شبه العام، وتتحكم فى الحياة الفردية والجماعية فى مجتمعاتنا المعاصرة إلى حد لا يمكن القبول به لأن هذا يُعدّ تدخلاً فى الخصوصيات، وهو ما يتطلب أحياناً تدخل الدولة كي توقف هذه الشركات تعدياتها على حرية الفرد.
وبإسقاط نفس المعايير التي حددها هابرماس في نظريته على الفضاء الثالث من أجل بناء مجتمع ديمقراطي، تكون فيه المعلومات سريعة الانتشار بحيث يأخذ الفضاء الثالث دوراً وحيزاً وربما أكثر من الفضاء العام. وهذه المعايير هي:
• المنزلة الاجتماعية: في الفضاء الثالث يتم التغاضي عن المكانة والمنزلة الاجتماعية لأي شخص. يأتي ذلك لعدم الرغبة في التأثير على تلك المنزلة أو الوضعية بين الناس، ويتم التعبير عن كافة الآراء بشكل حر وكامل دون مراعاة وتأثير لرأي المشاركين وهنا يتحقق مبدأ المساواة.
• سلطة التفسير: تعتبر سلطة التفسير من أهم السلطات في المجتمعات الديمقراطية، ومن يمتلكها هو المواطن العادي وليس الدولة أو المؤسسة الدينية كما أوروبا في العصور الوسطى. وفي العالم الإسلامي ما زالت السلطة الدينية والدولة هي التي تمتلك سلطة التفسير، ولذلك فإنه في الفضاء الثالث تتداخل سلطة التفسير بين المواطن العادي والسلطة الدينية أو الدولة. ويعتبر هذا المعيار أحد المعايير التي يتصارع المواطن والدولة عليه.
• الشمولية: لا يمكن استثناء أي فرد أو مواطن من المشاركة فى الجدل السياسي. وكما ساعد الإعلام التقليدي على تشكيل الرأي العام، يعمل الإعلام الاجتماعي على صناعة القضايا وتشكيل رأي عام حولها، بل وسهل من ذلك سهولة وصول الفرد إلى مساحته الخاصة فى أدوات الإعلام الاجتماعي من خلال الهواتف النقالة الملازمة للفرد طوال الوقت. أدت الشمولية إلى العودة إلى مفهوم الفضاء العام لهابرماس وتوفير غطاء لنظريته التي درس فيها طبقة واحدة فقط من البرجوازيين الأوربيين. وبدراسة يورجن هابرماس ونظريه الفضاء العام يستطيع الباحثون فهم وسائل الإعلام الاجتماعي الجديد بشكل عميق وسيوضح الأثر الكبير لهذه الأدوات على المجتمعات.
المجتمع العربي والفضاء الثالث
إن أية قضية أو رأي يتم نشره أو الإفصاح عنه ولم يكن ضمن إطار الرأي العام فهو ما زال في حكم الخاص والفردي، ولا يحق لأية مؤسسة رسمية أو غير رسمية محاسبة أي مستخدم لأية أداة من أدوات التواصل الاجتماعي، أولاً: لأنه يفتقد لعنصر وجوده فى منطقة الرأي العام، وثانياً: إن حرية التعبير تشمل استخدام كل الوسائل المتاحة بشكل فردي والتي كفلها القانون. وهناك من يرى أن الفضاء العام ليس مجرد ساحة للنقاش حيث من المهم رفع نتائج الحوار إلى السلطات لتكوين قرارت تدعم التغيير الاجتماعي، حيث لا يمكن اعتبار صفحات الفيس بوك أو حسابات تويتر المحمية فضاء عاماً لأنها محمية من قبل الشخص. وإن تم توزيع أو إعادة نشر أو استخدام تلك المواد المنشورة على صفحته بدون قبول خطي، يمكن اعتباره تعدياً على الحرية الشخصية. لذلك فإن بعض مواقع التواصل الاجتماعي تحدد خيارات مشاركة الكتابات ما بين عام وخاص وبين عدة فضاءات محددة مسبقاً. فإن كانت المشاركة على العام، فهي رسالة ومشاركة للفضاء العام ويمكن محاسبة كاتبها إن كان جريمة يعبر عنها. هنا لا بد من التفريق بين الشخصيات العامة التي تشغل مناصب فى شركات أو مؤسسات رسمية والحسابات للأفراد العاميين. فلا يمكن مقارنة حساب وزير، أومسؤول العلاقات العامة في شركة كبرى، أو مدير مؤسسة كبيرة عامة أو خاصة تخدم المجتمع، أو مسؤول فى حزب سياسي، بحساب شخص عادي كطالب أو متقاعد يبدي رأيه. فالأول يحمل صفة مجتمعية ومؤتمن من قبل عامة الشعب أو طبقة معينة (رجال الأعمال) لإدارة أموال أو شؤون المواطنين. فأي شخص من هذه الفئات يعتبر حسابه في مواقع التواصل الاجتماعي انعكاساً لآرائه العامة ولشخصه الحقيقي ولمؤسسته فى آن واحد.
ولسوء الحظ فإن المجتمعات العربية تختلط فيها القيم والمحددات المجتمعية غير الرسمية والرسمية. ولهذا السبب تنظر الدولة إلى الفضاء العام بكافة أشكاله كمصدر تهديد، وترى بأن مستخدمي الفضاء الثالث تهديد لقوتها وتَعتبر أن مواقع التواصل الاجتماعي تماثل حالة الشارع، وبالتالي تحاول ممارسة القبضة الحديدية على مستخدمي الفضاء الثالث، وأي شيء ينشره أو يشاركه الفرد منتقداً الدولة أو المؤسسة العامل بها، أو الجامعة التي تحتضنه، يعتبر خروجاً عن القانون ويجوز معاقبته، وأحياناً تصل الأمور للسجن. في خضم النقاش فإن المواطن والمستخدم العربي عليه أن يؤسس لحياتين: الحياة الأولى يعبر عنها في منفاه الافتراضي باسم افتراضي، والحياة الثانية لتأكيد وجوده، وولائه للدولة والحزب والجامعة. وهذا مخالف للمنطق والعقل ودليل على فشل المؤسسة الاجتماعية بكاملها.